وأنت تسافر من مدينة القامشلي في اتجاه محافظة الحسكة بعد سبعة أعوام من مغادرتك للمكان، لا تصطدم بالواقع كثيراً، فأنت تكون قد رأيت كل ذلك الخراب عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكنك تستغرب فهذه بلادك التي عرّفتك على السلام واهتديت بها نحو الضوء، تكتشف أجنحتك هذه هي بلادك حقاً وليست بلاداً بعيدة كنت تتابع أخبارها من بلد لجوئك وأنت تنعم بالأمان والكهرباء والماء.
جغرافية الفوضى
سافرنا مع أحد العاملين في السلك التربوي كنت أعتقد أننا نسلك طريقاً طبيعية، فقبل أعوام كنت أسلك هذه الطريق كل يوم ذهاباً وإياباً في طريقي نحو الجامعة طريق المطار، الذي عرفتُ مؤخراً أنه قد أغلق بابه بوجه المسافرين، وأصبح طريقاً لمظاهر التأهب لحريق يشتعل في انتمائك، على أحد الحواجز عرفت أن من سافرنا معه يملك من الأمن حق المرور من تلك الطريق، اجتزنا الحواجز العديدة بهدوء، رغم الصمت الذي كان يسود، إلا أنك تكون على شفا حفرة من الخوف دون أن تعلم من ماذا.
المكان الذي حين كان أهله يرون دورية شرطة كانوا يطلقون أبصارهم خلفها ليعرفوا ماذا حدث، الحوادث كانت تُعدُّ من قلّتها. بلد لن تصدق أنها هي هذه بعد أن رميت نفسك خارج جغرافيتها (جغرافية الفوضى الآن)، كل برهة تقفُ لتثبت أنك لست عود ثقاب يهدد قشّ سطح منزلك الطيني، حواجز تابعة للنظام السوري وأخرى تابعة للإدارة الذاتية في شمال سوريا، كل الواقفين على تلك الحواجز أبناء تلك البلاد، أبناؤها الذين يدققون في هوياتنا الشخصية، نحن أيضاً أخوتهم في البلاد يدققون في وجوهنا المتعبة من غبار الحصاد على جانبي الطريق، وندقق في وجوههم المتعبة من غبار الحرب التي استوطنت من دون تمييز عرقي أو ديني، كلنا دفعنا الثمن، كرداً وعرباً مسلمين ومسيحيين، حتى قططنا ودجاجاتنا ومواشينا دفعت الثمن.
المشهد مريب خلفهم، يفجر قنبلة في ذاكرتك، مشهد القمح، العمال، الصوت الذي يومئ لحجم الحياة، مشهد حصادة القمح وعمالها الأوفياء لفقرهم، مازالوا يدفعون عرقهم وتعبهم قرابين للشمس الملتهبة فوقهم، مازالت الحصادات تحصد قمح الجزيرة الطيب الأبيض، ولكن لا خبز طيب في الجزيرة، الخبز أسود كالقدر الذي احتلها، ما يؤلمك في الطريق هو سكة القطار الملتوية التي نبت عليها العشب وأصّفرّ، كإشارة للفراغ، لسكين ذبح ضجيج النهار، لعدم مرور القطار عليها منذ دهر، القطار الذي نقل الطلاب من القامشلي للجامعات في الحسكة، الذي نقل الناس من المدينة للمحافظة كل يوم كفرض صلاة بسعر زهيد، وكأنه صديق الناس الأزلي.
تصل لمشارف الحسكة فتتوقف في حاجز ضخم تابع للإدارة الذاتية، يفتشون المارين واحداً واحداً، من دون التعرض لأحد، وأنت واقف تحت شمس الظهيرة في تموز تدرك تماماً أنك في بلد مهدد بالإرهاب والمجرمين الذين أتوا من كل بقاع الأرض ليفسدوا عليك طمأنينتك القديمة، تجتازهم لتواجه الفقر الذي حل بالناس بشدة، نساء مطعونات في السن يركضن هنا وهناك، من تلحق الباص ومن تلحق لقمة عيشها المغمسة بالقهر، لا رجال، فقط تلك الشامخات يعملن ليحافظن على ما تبقى من كرامتهن وكرامة البلاد، كُرديّة تلبس زيّها التقليدي تربط خصرها ورأسها بوشاح مورّد ربما لتُربت على كتف الأخرى التي ترتدي زيها العربي، وتربط خصرها ورأسها أيضاً بوشاح حزين.
تسيران بسرعة نحو دائرة حكومية تقفان معاً وتقف أنت مع المجتمعين لتحصل على توقيع أو ختم من موظف حكومي، جنود النظام لا يميزون بين الموجودين تقريباً، إلا من ملك واسطة، كما هو المعتاد في شرقنا الكريم سيحصل على ختمه، من دون الوقوف في طابور المراجعين، لفت انتباهي ونحن في دائرة حكومية أن أحدهم برتبة عقيد مرَّ بجولة على الدائرة فانهال على أحد الموظفين بكلام حاد لأنه كان يجري محادثة كتابية (دردشة) بيد ويعمل باليد الثانية، ربما يكون هذا أمراً طبيعياً، ولكن في بلد يخوض كل هذه الحرب فهو أمر غريب.
سبعة أعوام من القتل
النظام السوري مازال متحكماً بنفسه وبمن يعيشون هنا، في الشارع العام تصافح الدهشة، سبعة أعوام من القتل نخرت المدن وترى اعلانات معلقة في الساحات، عروض شركات الاتصالات والمتاجر والمطاعم، وصور ضخمة لأصدقائك وجيرانك مرفوعة في طرفي الطرق، مكتوبة أسماءهم بعد كلمة (الشهيد/ة)!
تصرخ في ألمك: «متى وكيف ولِمَ؟» رغم صيت الحرب ورهبتها، الناس يعيشون حياتهم ينتظرون القذيفة والمجرمين وهم يشعلون في مشارف بيوتهم أمنية واحدة.. السلام، مع من وتحت حكم من، لا يعنيهم الأمر، فقط يتضرعون لرحيل البذلة العسكرية عن أبنائهم الذين كانوا يشمئزون من سنة ونصف السنة في الخدمة الإلزامية أيام السلام، فجندتهم الحرب عنوة لأعوام لم تنتهِ بعد.
بين المدن لن ترى إلا الحواجز الكثيرة جداً، العسكر، السلاح، الحذر، الحذر الكبير هنا يجعلك تشعر بالخوف من خطر قريب، ليست هذه القامشلي ولا هذه الحسكة التي عشنا فيها حتى قبل سبعة أعوام، لا ترى شباباً يافعين يحملون كتبهم أو يلحقون حبيباتهم ولا ترى عائلة سعيدة تمشي باتجاه الحديقة، مدينة النساء، نساء وأطفال، مدينة من دون آباء ولا طلاب ولا عشاق، مدننا العجوزة المصابة لا أحد يطلق عليها رصاصة العودة وقتل الحرب والخراب، ساقتنا الأحقاد كثيراً، هذه المدن ليست لأحد، فكلنا ننتمي لها، يلاحق الكردي غده وأيضاً العربي يفعل ذلك، وغدهما مرمي في فوهة بندقية تقف على حدود جشعة، كُرد الجزيرة أناس بسطاء يعشقون الموسيقى، لا يخلو بيت من آلة موسيقية أو من قلم ودفتر لشاعر سيكبر ويكتب لمستقبله المجهول، عرب الجزيرة البدو يكفي أن تعرف أنهم بدو لتعرف كمية الطيبة التي يتصفون بها، كلهم أُناس مغلوبون على أمرهم، لا يعرفون أولئك الذين فرّوا لخارج البلد وهتفوا بتمجيد الحرب بأسمائهم، ولا يهمهم أن يعرفوهم، فقط يدركون تماماً أن كل من لم يعش ويلات الحرب هذه وعمل لإطالتها هو عدوهم وعدو أولادهم، أطفال يلعبون في الشوارع بالأسلحة البلاستيكية في وقت الدوام المدرسي، وآخرون يعملون خلف عربات الخضروات والفواكه والحلويات، وعدد مخيف يتسول في الشوارع وعلى إشارات المرور، أجيال لا تعرف القراءة والكتابة سيغزون مستقبل أنفسهم وبعضهم، من سيتحمل كل هذه الأوبئة؟ هل تستطيع أن تتقبل غدكَ من دون طبيب أو مهندس أو معلم أو قاض؟ إذا كنا لا نستطيع تخيل أن أبناءنا سيعيشون في بلد بحجم هذه الكارثة فلنكن صوتاً ولو خافضاً لإنهاء تدفق السم لبيوتنا، التي تركناها للريح والقذائف تحرس وجودنا.
قدرنا أن نعيش معاً لا خيار ثالث أمام هذه البلاد التي تتسع لنا كلنا، قدرٌ محتومٌ إما أن نعيش معاً أو أن نموت جميعاً.