البروفيسور الدكتور حنا بطاطو (1926 ـ 2000) باحث فلسطيني الأصل مختص في تاريخ المشرق العربي الحديث. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد الأمريكية ثم اشتغل في التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت من (1962 ـ 1982) وجامعة جورجتاون من (1982 ـ 1994). وكتابه «فلاحو سوريا» يركز على الطبقة الفلاحية التي خرج منها بعض الذين لا يزالون يمسكون بزمام السلطة في سوريا خصوصا من المنتمين إلى حزب البعث في جناحه السوري. كما يقدم عرضاً دقيقاً ومفصلاً لخلفيات الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الاجتماعية والسياسية وللقياديين المحيطين به، وتعامل الأسد معهم بحيث يربط جذوره التي صقلت شخصيته بمواقفه من حلفائه وخصومه.
وخلال الفصول المتعاقبة في الكتاب، يتبين ان بطاطو قابل كبار الشخصيات التي برزت على الساحة السورية في السنوات التي سبقت نظام حافظ الأسد، وبينها أكرم الحوراني وميشال عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي وكبار القادة العسكريين الذين تعامل الأسد معهم. كما اطلع على بيانات ووثائق توضح انتساب السوريين في المناطق الاجتماعية والجغرافية المختلفة إلى حزب البعث في الحقب المختلفة.
في الفصول الأولى يتناول ظروف الفلاحين السوريين الاجتماعية والاقتصادية، ويقسّمهم إلى فئات مختلفة حسب طبيعة عملهم الزراعي ومشاركتهم في الشؤون السياسية وارتباطهم بالعشائر ودخلهم الزراعي أو مستوى تعليمهم.
ويتناول القسم الثالث من الكتاب البعث في جوانبه الريفية والفلاحية ويشمل فصولاً عن دخول الوجهاء الريفيين إلى الجيش في الستينيات من القرن الماضي وأسباب نفوذ الضباط العلويين في الجيش السوري، وفصولاً أخرى عن حزب البعث ما بعد 1970 بقالبه الأسدي وخصائصه العامة.
أما القسم الرابع فعنوانه: «حافظ الأسد أول حاكم لسوريا من أصول فلاحية». ولكن الفصلين الأكثر أهمية في القسم الرابع وربما في الكتاب هما الفصل الثاني والعشرون، الذي يعرض بتفصيل الطريقة التي تعامل بها حافظ الأسد مع حركة الإخوان المسلمين ومقاتليها وخصوصا في حماة عام 1982، والفصل الرابع والعشرون حيث أجرى بطاطو دراسة معمقة لعلاقات حافظ الأسد بحركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية بين عامي 1966 و1997 وبالحرب الأهلية اللبنانية والغزو الإسرائيلي للبناني عام 1982.
يذكر بطاطو ان الإخوان المسلمين في سوريا كانوا منقسمين وكانت مجموعة «الطليعة المقاتلة» بينهم تعتمد العمليات الميدانية لمقاومة النظام، فيما اعتمدت مجموعة أخرى بقيادة مروان حديد المواجهة السياسية. إلا ان حديد اعتقل وأدى تعذيبه تحت الاعتقال إلى وفاته مما رجح كفة الطليعة المقاتلة.
وارتكبت «الطليعة» عملية ميدانية دموية ضد ضباط علويين في حلب، وقرر حافظ الأسد اعتماد المعاقبة الجماعية ضدهم، بعد ان حاول سابقا استمالة الجناح السلمي بينهم. وحدثت مجزرة حماة التي ذهب ضحيتها الآلاف من سكان المدينة. وربط حافظ الأسد مواقف المقاتلين الإسلاميين ضد نظامه بسياسة أمريكا.
وقالت مصادر بعثية تابعة للنظام قابلها الكاتب انه: «بهدف تحسين القدرات العسكرية للإخوان (في سوريا) لجأت القيادة المشتركة إلى العراق والأردن طلباً للمساعدة، حيث سافر ثلاثة من أعضائها: عدنان سعد الدين وسعيد جدا وعدنان عقلة إلى بغداد عام 1981 والتقوا أولاً طه الجزراوي، وكان عضواً في مجلس قيادة الثورة في العراق، ثم صدام حسين، وتلقوا تأكيدات بان الإخوان يمكنهم، بالاضافة إلى التدريب الذي يُقدّم للمجاهدين الإسلاميين في معسكرات الجيش العراقي، ان يعتمدوا على العراق من أجل دعم كامل بالمال والسلاح (ص 494).
ويستند بطاطو إلى تجميع بيانات صادرة عن سعد الدين وتصريحاته العلنية ومصادر أخرى ليشير بان الانتفاضة في حماة كانت مخططة سلفاً في كانون الثاني (يناير) 1982 بتدبير من عدنان عقلة، قائد «الطليعة المقاتلة» بالاتفاق مع عمر جواد القائد المحلي للمقاتلين، ولكن غارة غير متوقعة نفذتها مجموعة من سرايا الدفاع والمخابرات العسكرية على معقل عمر جواد السري دفعت المقاتلين إلى اطلاق دعوات إلى ثورة شاملة مستخدمين مكبرات الصوت على مآذن الجوامع قبل يومين من الساعة المحددة المتفق عليها للتحرك.
ويتساءل الكاتب في الفصل الثالث والعشرين عما إذا كان حافظ الأسد قومياً عربياً أو قومياً سورياً؟ وهل هاتان العقيدتان مرتبطتان؟ ويجيب، أن الدليل التاريخي بهذا الصدد غامض وغير محدد، إذ أن انتساب حافظ الأسد إلى فرع البعث في اللاذقية عام 1946 يشكل التزاماً بالقومية العربية وفي الوقت عينه بمبادئ أخرى كالتحرر الاجتماعي للفلاحين والمساواة التامة بين العلويين وأفراد الأقليات الأخرى وبقية المواطنين.
ويوضح بطاطو ان مساعدة حافظ الأسد لإيران غير العربية ضد العراق العربي بقيادة صدام حسين خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية فسرها الأسد بأن إيران الثورة كانت تقف إلى جانب العرب في نضالهم من أجل استرداد أرضهم المحتلة، فيما كانت إيران الشاه متواطئة مع إسرائيل.
أما بالنسبة إلى الصراع مع إسرائيل، فحافظ الأسد نظر إليه بوصفه صراع مصير ووجود وأنه يجب استرجاع الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عبر اعتماد «مفهوم التوازن الاستراتيجي». غير ان أمورا كثيرة حدثت كانهيار الاتحاد السوفييتي وانخفاض قدرة سوريا في الحصول على أسلحة تكنولوجية متقدمة ما قلل من فرص نجاح تحقيق هذا المفهوم الذي اعتمده الأسد.
كما ان حافظ الأسد، وبرغم مشاركته في التحالف ضد العراق، يقول الكاتب، أدرك لاحقاً ان آثار تلك الحرب على العرب جميعا كانت سلبية وان الرابح الأساسي منها هي إسرائيل (ص 524) وبالتالي عاد ليشدد من جديد على ضرورة وحدة الشمل العربي.
بالنسبة لعلاقة الأسد مع فتح والقيادات الفلسطينية، تطرق بطاطو لهذا الموضوع في الفصل الرابع والعشرين وهذا الجزء يتطلب مراجعة طويلة ومنفردة لأهميته. وقد التقى قيادات فلسطينية بارزة في تلك الفترة وبينها أبو اياد (صلاح خلف) وابو اللطف (فاروق القدومي) بالإضافة إلى كبار الاختصاصيين في الشأن الفلسطيني والعلاقات الفلسطينية ـ السورية والقيادات البعثية مما أسهم في دعم كتابه. وخلاصة ما ورد في الكتاب عن علاقة حافظ الأسد بالفلسطينيين انه خلال الفترة الممتدة بين عامي 1964 و1966 نشأ تعاون وثيق بين حركة «فتح» ونظام البعث في سوريا، وكانت سوريا، حسب ما قال ابو اللطف للمؤلف «قاعدة دعم أساسية لحركتنا، حيث وافقت حكومة البعث على اقامة معسكرات لتدريب مقاتلي فتح وقدمت لهم الأسلحة والتجهيزات».
وقد انقطعت تلك الفترة الأولى من التعاون بين فتح وحزب البعث بشكل مفاجئ نتيجة ما أطلق عليه أبو اياد اسم «قضية يوسف عرابي» وهو نقيب فلسطيني في الجيش السوري قتل في ايار(مايو) 1966 في حادثة اطلاق للنار لم تتضح ملابساتها حتى الآن. وفي اليوم الثاني زج في السجن جميع أعضاء قيادة «فتح» المقيمين في دمشق ومن بينهم ياسر عرفات وخليل الوزير (ابو جهاد). وجاء الأمر باعتقالهم من حافظ الأسد شخصياً: الذي كان قد أصبح حينها وزيراً للدفاع وقريباً من قمة السلطة، بعد الدعم الذي قدمه لانقلاب صلاح جديد (شباط/فبراير 1966) وقيل، حسب بطاطو، ان عرابي كان من رجال الأسد وانضم لفتح لتحقيق أغراض الأسد.
واعتبر أبو جهاد ان عرابي كان صديقا لفتح ومقرباً من الجيش السوري في الوقت عينه، غير ان عرفات رأى القضية برمتها مرتبطة بمحاولة صلاح جديد وحافظ الأسد السيطرة على النشاط العسكري لفتح بعد الانقلاب الذي قاما به في عام 1966. كما حاولا ادخال عناصر مقربة منهما في قيادة فتح فرفض عرفات ذلك وانطلق منذ ذلك الحين خلاف بين الجهتين استمر لفترة طويلة.
وفي حديث أجراه الكاتب مع أبو اياد في تموز (يوليو) 1985 قال الأخير انه حاول التوسط مع القيادة السورية للافراج عن عرفات وأعوانه فكان الرد بان عرفات عميل للمخابرات المصرية وان «فتح» منظمة غامضة معظم أعضائها من الإخوان المسلمين أو البعثيين المرتدين. وبرغم ذلك أطلق سراح عرفات بشرط ان يغادر سوريا.
وبعد ذلك قرر قادة «فتح» نقل قيادتهم إلى الأردن وهناك تضاربت علاقة حافظ الأسد بهم وتردد في دعمهم خلال مواجهتهم مع الملك حسين. وفي خريف 1971 تصالح حافظ الأسد مع العاهل الأردني وهدد قيادات فتح بالتصفية إذا تعرضوا للملك حسين أو أعوانه (بعد اغتيال وصفي التل) وسعى إلى اخضاع وحدات جيش التحرير الفلسطيني المتمركزة في سوريا لسيطرته (ص 534)، كما وقف حافظ الأسد ضد الحركة الوطنية اللبنانية وتحالفها مع المقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، خصوصا في عامي 1975 ـ 1976 (التفاصيل حول هذا الموضوع واردة في صفحات الكتاب 535 إلى 550 وما تلاهما).
والكثير من الآراء الواردة في الكتاب قد لا تعجب الكثيرين وخصوصا الفصول الأخيرة عن علاقة حافظ الأسد بالفلسطينيين ومواجهته معهم وعدم دعمهم الدعم الكافي في الأردن عام 1982 وتركهم ليواجهوا مصيرهم بمفردهم. ولكن هذه العلاقة بين الجانبين تبدلت في مراحل مختلفة وتحسنت بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس.
كما استعادت سوريا ومنظمة التحرير علاقاتهما الطبيعية، حسب الكتاب، في ايار (مايو) 1991 أي بعد انتهاء حرب الخليج لصوغ موقف مشترك في مؤتمر مدريد. ولكن انعدام الثقة خف ولم ينته تماماً في المراحل اللاحقة.
إلا ان الأمر الأهم في الكتاب هو المنهجية العلمية التي اعتمدها الكاتب في عمله الأكاديمي الرفيع المستوى والتي ربما تغطي على أي انتقادات قد توجه له وتتهمه بالانحياز ضد النظام السوري.
حنا بطاطو: «فلاحو سوريا – أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم»
ترجمة عبد الله فاضل ـ رائد النقشبندي
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014
703 صفحات